مقالات

معضلات رقمية (1): الترويج للمجهول !

يمكن أن نعرّفالمعضلةبأنها ذلك الأمر الذي لازلنا نبحث له عن حلول، المسائل التي تحيط بنا في حياتنا والتي قد نحتار ونتساءل حولها مرات عديدة، وحين نتناقش بخصوصها؛ في الغالب لا نصل لحل يرضي جميع الأطراف، هي مسائل شائكة لكنها باقية وقد نعيد التفكير فيها عند كل فرصة سانحة، والحياة الرقمية ليست بمنأى عن تلك المعضلات، بل هي من البيئات الخصبة لظهور الجديد منها على طول الخط، وماهذه السلسلة في موقع علم التقنية؛ إلا محاولة متواضعة لتسليط الضوء على بعض تلك المعضلات التي قد تواجه أي شخص في حياته الرقمية.

فلنبدأ بأول معضلة، تلك التي تتعلق بالترويج في العالم الرقمي.

قبل عدة أيام؛ نشر أحد صنّاع المحتوى في اليوتيوب فيديو يعتذر فيه لمتابعيه عن ترويجه لتطبيق هاتفي في إحدى فيديوهاته السابقة، فقد قال أنه اكتشف أن التطبيق “إسرائيلي” وليس “فلسطيني” كما كان يعتقد أو كما تم خداعه (بحسب قوله)، فهو الآن يدعو متابعيه لحذف ذلك التطبيق، ويدعو أصحاب القنوات الأخرى التي روجت للتطبيق أن يحذوا حذوه ويعتذروا لجمهورهم مثله.

بعد ذلك ظهرت فيديوهات أخرى، من يدافع عن التطبيق ويثبت عكس ذلك، ومن يرد ومن يعلق، كل ذلك في ظل تأكيد الشركة أنها ليست كما قيل وأنها وأنها… الخ.

نحن لسنا معنيين بكل تلك الدوشة، نحن هنا نريد أن نستشهد بتلك القصة ونعيد التفكير في المعضلة الأساسية التي تسببت في ظهور مثل تلك المشكلة والمشاكل الأخرى المرتبطة، إنها -في اعتقادي- من أكبر معضلات التسويق الرقمي، فهي من أدت بالأخ علي محمد -صاحب قناة يوتيوب- بأن يلغي الاعلانات من جميع فيديوهاته في اليوتيوب، وهي التي تشغل بال كثير من صنّاع المحتوى الرقمي، وخاصة من يحرصون على أن يكون أثرهم صالحاً ومسيرتهم الرقمية حسنة.

إستغلال الثقة الممنوحة

يمكن أن نقسم الترويج الرقمي لقسمين من حيث طريقة التقديم للجمهور، فهنالك من يقدمه بنفسه أو يتحدث عنه بصوته، فهو من يصيغ العبارات التسويقية وهو من يتواصل مباشرة مع الجمهور، وهذا هو الأخطر، لأنه هنا لا يستخدم فقط قوة الوصول لأكبر عدد ممكن، بل يستفيد من الثقة الممنوحة له من قبل من يتابعه أو يشاهده، (يمكن مشاهدة فيديو تجربة قناة سوار شعيب التي تبين خطورة هذا الأمر).

أما النوع الثاني من الترويج، هو الذي لا تتبناه أنت بنفسك وتقدمه عبر شخصك، قد يظهر في بداية الفيديو أو نهايته، قد يتم ذكر الإعلان في الجانب الأيمن للموقع أو في أي مكان بداخل أو حول المحتوى الذي تقدمه عبر أي منصة كانت، وهنا أنت تقدم رسالة مفادها: تلك خدمة مفيدة أو منتج جيد، اذهب وتأكد منه بنفسك إن أحببت.

النوع الأول من الترويج قد يندرج تحت ما يسمى في اللغة الإنجليزية (Endorsement) وستجد أنه هو الأسلوب الشائع للإعلان والترويج داخل سناب شات أو اليوتيوب؛ حيث يقوم الشخص المشهور بالذهاب إلى ذلك المطعم أو الإقامة في ذلك النزل أو حتى شراء قنينة عسل نحل جيدة، ثم يتحدث عنها أمام متابعيه ويشكر فيها، أو ببساطة: يريهم جمال المكان وروعة الإتقان.

هنالك مشكلة ناتجة عن هذا النمط من الإعلان، وهو عدم التفرقة الواضحة بين المحتوى الأصلي والمحتوى الإعلاني المقدم، والذي قد يخدع المشاهد ويعتقد أنها نابعة من صميم قناعة الشخص المعلن لها، ولتلك المشكلة حل تحدث عنه الأخ سعود في مقالة سابقة، والحل ببساطة هو أن يتم الإفصاح عن المحتوى الإعلاني أو تفرقته عن المحتوى الأصلي، ذلك الذي يحتوي على تجارب وخبرات الشخص المقدم للمحتوى.

الترويج لغير المعلوم أو المجهول

يمكن أن نقسم الترويج في العالم الرقمي بناءً على محدد آخر غير المحدد السابق، فأنت قد تروج لشيء تعرفه، لكن الخطورة حين تروج لشيء لا تعرفه، نعم هذا ما يحدث بالفعل، نحن نعلن ونروج لأشياء لا نعرفها ولا نعلم حتى أسماءها، لكن كيف يكون ذلك؟

إن الاشتراك في خدمة قوقل أدسنس أو الانضمام لبرنامج الشراكة في اليوتيوب هو أوضح صورة لما يمكن أن نسميه (الترويج للمجهول)، فأنت تتعاقد مع قوقل على أن توفر له بعض المساحة داخل صفحات موقعك، أو ضمن محتوى فيديوهاتك كي يعرض فيها إعلانات أنت لا تدري عنها شيء، اعلانات تظهر للأشخاص بناءً على موقعهم الجغرافي أو اهتماماتهم، وهذا يعني أن الاعلانات التي تظهر لغيرك لن تظهر لك، فقد يجلس أخوك في الغرفة المجاوره لك وتظهر له اعلانات مختلفة تماماً عن تلك التي تظهر لك وأنتم تقرأون نفس الصفحة أو تشاهدون نفس الفيديو.

أصبحت الاعلانات الرقمية اليوم تعتمد بشكل أساسي على تخصيص المحتوى الإعلاني لتناسب من يشاهدها، وهذا يسمح للشركات أن تحدد الجمهور المستهدف لتلك الاعلانات بشكل دقيق، فأنت كصاحب موقع أو قناة يوتيوب قد تكون من سكان مدينة الرياض مثلاً، وهنالك اعلان لا يظهر إلا لمن هم في مدينة جده، وبالتالي قد يعرض على عشرات أو مئات الآلاف من الأشخاص القاطنين في جدة وأنت لا تدري أصلاً أن هذا الإعلان يتم الترويج له داخل قناتك أو موقعك.

قد يقول قائل؛ وماذا عن فلترة الإعلانات التي تتوفر في قوقل أدسنس، سأخبرك أنها تعطيك إمكانية حجب إعلان أو إعلانات محددة بعينها، وهذا لم يعد له فائدة كبيرة بعد أن أصبحت الإعلانات مخصصة، لأنك أصلاً لن ترى أو تعرف الاعلان حتى تقوم بحظره.

لكن مع ذلك هنالك خاصية في قوقل أدسنس يمكن أن تكون حل جزئي لهذه المعضلة، هي خاصية (Ad Review Center)، وهي التي تسمح لصاحب الحساب بأن يراجع الاعلانات التي ظهرت في موقعه خلال آخر 30 يوم، يمكن له أن يحظر منها ما يشاء، لكن هذه الخاصية ليست عملية، فقد تحتاج لتوظيف شخص متفرغ ليقوم بمراقبة الاعلانات التي تظهر كل يوم، كما أنها غير متوفرة في كل المنصات، والتي أهمها (يوتيوب).

تخيل أن يظهر اعلان لفيلم هندي غنائي مليئ بالرقص والنساء الغير محتشمات في بداية فيديو يتحدث عن الحياء والحشمة، أو بداية فيديو يحتوي على سورة البقرة بصوت الشيخ ماهر المعيقلي، الوضع يبدو من الخارج وكأن القناة أو صاحب القناة يروج لذلك الفيلم، في حين أنه لم يختر ذلك الإعلان ولم يرضَ به أو يوافق عليه، فهويروج للمجهول.

هل هنالك ثمة حل؟

لو كان الحل في إيقاف الاعلانات في المواقع والقنوات، لما كانت معضلة من أساسه، هي معضلة لأن كل الحلول صعبة، لأنه لا يوجد أي حل قد يتفق عليه الجميع، فإيقاف الإعلانات ليس هو الحل، فتلك الاعلانات هي التي تجلب العائد المالي لصانع المحتوى، هي محفز مهم يساهم في تطور وازدهار المحتوى الرقمي، هي من يدفع صاحب القناة بأن يقضي ساعات طويلة ويرهق نفسه من أجل أن ينتج فيديو فيه فائدة أو درس أو يكتب مقالة دسمة يشارك بها خبرته وتجربته وينقلها للآخرين.

تلك الإعلانات هي مصدر دخل مهم للكثير من الأفراد، هي سبب في إعمار بيوت وفتح الفرص والأبواب أمام الكثير من الشباب، هي وسيلة -وإن كانت متواضعة- لإعادة توزيع الثروة بين الدول الفقيرة والغنية، وجلب العملة الصعبة للبلدان النامية، كما أن الإعلانات الرقميةهي ما ساهم ويساهم في ازدهار مفهوم المحتوى المجاني والخدمات المجانية، لذلك فليس من السهولة أن نقول بكل بساطة: وداعاً للإعلانات الرقمية، فتلك الإعلانات هي مفيدة لنا -كمستخدمين ومستهلكين للمحتوى- بقدر ما هي مفيدة لصانع المحتوى.

هذه المشكلة ماثلة حتى عند الترويج لما هو معلوم، دعني أعود بك إلى مقدمة هذه المقالة، قصة التطبيق المشكوك في أصله وغايته، حين قام ذلك اليوتيوبر بالترويج له وبعد ذلك اكتشف عنه أشياء لم يكن يعلمها، ففي تلك الحالة هو أيضاً كان يروج لمنتج مجهول في بعض أجزاءه، لم يكن يعلم عنه إلا القليل، وهذا هو الحال مع مشاهير شبكات التواصل أو مع أي شخص يمتلك منصة يصل بها إلى الجمهور، قد يتعاقد مع شركة ويروج لمنتج بدون أن يعرف كل شيء عنه، قد تظهر له أشياء في المستقبل تجعله يندم على كل كلمة قالها وعلى كل شخص ساهم في إقناعه.

قد يقترح البعض حلولاً مثل التوجه لأنواع أخرى من أشكال التسويق الرقمي، مثل التسويق بالعمولة (Affiliate Marketing) أو في اتباع طرق أخرى لكسب المال بعيداً عن الترويج والإعلان، مثل جمع التبرعات من المستفيدين بشكل تطوعي (عبر منصة باتريون أو ما يشابها)، هنالك حلول عديدة مطروحة في الساحة، لكن تبقى الإعلانات الرقمية (المجهولة) هي الأسهل والأكثر إدراراً للمال، لذلك ستبقى الخيار المفضل لكثير ممن ينشر وينشئ ويصنع المحتوى الرقمي، وسيبقى هذا الأمر معضلة تستدعي منا التفكير فيها ومن الشركات إيجاد الحلول لها.

ختاماً …

كما قلنا في بداية المقالة، نحن هنا نتحدث عن معضلات، عن مشاكل ليس لها حل محدد أو طريق واضح، لذلك؛ فدورنا هنا هو أن نثير الحديث عنها، أن نحاول تفكيك المشكلة إلى أجزاء يسهل فهمها، أن نحرك المياه الراكدة وأن نستثير العقول كي تتساءل عن الأصوب والأنفع، فإن بدأ بالفعل ذلك الحراك الفكري داخل عقلك، فقد وصلنا للهدف، والباقي عليك.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى