التقاريرمقالات

مهمة البحث عن الأب الروحي للإنترنت – الجزء الأول

قائمة رواد الإنترنت الذين أسسوا بنيانه وأقاموا دولته

مهمة البحث عن الأب الروحي للإنترنت - الجزء الأول

يُستَخدم مصطلح “الأب الروحي” أو “Godfather” لوصف الشخص الذي أسس مجال من المجالات أو عبّد ومهد الطريق لمن يأتي من بعده ويستفيد من أثره، لكن هنالك مجالات يصعب علينا أن نجد لها “أب روحي” واحد، فهنالك أشخاص عديدون على مر السنين قد ساهموا في إنعاش المجال وبناء أساسه، ومن هذه المجالات (الإنترنت)، تلك الكلمة التي غيرت مسار البشرية وجعلتهم قادرين على التواصل والمشاركة، بل أنها التقنية التي سمحت لغير البشر بأن يتواصلوا فيما بينهم (إنترنت الأشياء).

فيما يخص الانترنت، سوف تجد استخدام كلمة (رواد) أو (Pioneers) أكثر من مصطلح “الأب الروحي”، لأن  الانترنت قد تطور تدريجياً وساهم في تأسيس قواعده العديد من الباحثين والمختصين، وقد خصصت الموسوعة الحرة “ويكيبيديا” صفحة تسرد فيها أهم رواد الانترنت، وهي المقالة التي لم تترجم إلى العربية حتى الآن، ونحن هنا لن يكون دورنا مجرد الترجمة فقط، بل البحث -كما هو واضح من عنوان المقالة- والتنقيب في إنجاز كل شخص من أولئك لنعرف ما مدى قربه أو بعده من لقب “الأب الروحي للإنترنت”.

في كل جزء من أجزاء هذه السلسلة، سنتعرف على 3 من رواد الإنترنت الأوائل، لمحة من حياتهم وجانب من إنجازاتهم، وبعض المصادر الأخرى لمن يريد التعرف أكثر عليهم.

(1)
كلود شانون
(1916-2001)

الكلمات التي تقرأها الآن قد تم تحويلها من هيئتها الرقمية إلى شكل يمكن أن يفهمه البشر، وهي في الأساس قد تحولت من كلمات إلى (صيغة رقمية) حين قمت أنا بكتابتها عبر لوحة المفاتيح الصغيرة وحاسوبي المتواضع، ليست الكلمات فحسب، بل جميع ما تحويه هذه الصفحة من رسوميات وصور وأشكال، كلها تم تخزينها أساساً بصيغة رقمية، وعندما نقول (رقمية) فنحن نعني مجموعة من (الأصفار والوحايد)، لأن هذه هي الطريقة الوحيدة التي يمكن أن تتعامل بها الآلة مع البيانات أياً كان نوعها، سواءً عند تخزينها أو نقلها، إذاً الإنترنت والحواسيب بشكل عام تعتمد أساساً على “الرقمنة”، والرقمنة تعتمد على أبحاث البرويفيسور كلود شانون.

لقد كان “شانون” عالم رياضيات ومهدنس إلكترونيات بارع، قدم للعالم ورقته البحثية البارزة “A Mathematical Theory of Communication” في 1948، والتي أسست لطريقة جديدة للتواصل، وتحدث فيها المؤلف عن الـ(بت) الذي هو وحدة قياس البيانات المخزنة أو المرسلة، وهو المصطلح الذي لايزال يستخدم حتى يومنا الحاضر. (8 بت تشكل البايت، والبايت يمثل حرف واحد من حروف اللغة).

يقول الباحثون والخبراء أننا كنا سنتأخر عن ما نحن فيه من تطور تقني ورقمي بعشرين أو 30 سنة بدون أبحاث كلود شانون، لقد قدم في وقت مبكر تلك النظرة التي قلبت الطاولة على رأسها وأتت بفكرة جديدة ساهمت في التخلص من أجهزة الحواسيب وأجهزة الاتصال القديمة التي كانت تعتمد على الأسلوب التناظري (analog) وذلك بالاتجاه إلى طريقة رقمية هي تمثيل للجبر البولياني لكن بطريقة تفهمها الآلة.

تخرّج كلود شانون من جامعة متشيغان في 1936 بدرجتين علميتين: في الرياضيات وفي هندسة الإلكترونيات، ثم بدأ بعدها رسالة الماجستير في جامعة MIT في هندسة الإلكترونيات، وعمل بالقرب من أجهزة الحواسيب القديمة التناظرية (Analog computer) التي كانت تؤدي مهامها بطريقة معقدة، مما أدى به إلى التفكير بطريقة أخرى لعمل تلك الحواسيب، وقد كتب رسالة الماجستير التي مهدت الطريق فيما بعد لإنتاج الدوائر الرقمية (إلكترونيات رقمية) والتي هي أساس العالم الرقمي الذي نعيشه اليوم.

لم يكن لكلود شانون مساهمة مباشرة لتطوير الإنترنت، لكنه يلقب بالأب الرحي لتكنولجيا المعلومات بشكل عام، كما أنه لم يعرف حقاً الأثر البالغ التي تركه في الحياة المعاصرة اليوم، وقد أصابه مرض الزهايمر في سنواته الأخيرة ثم توفي عام 2001 وذلك قبل أن يولد الآيفون. وقد كان أحد طلابه (إيفان سذرلاند) الذي يعتبر أحد رواد الإنترنت أيضاً.

(2)
بول باران
(1926 – 2011)

الإنترنت مبني على تقنية الاتصالات والشبكات، والتطور الحاصل في هاذين المجالين سمح بأن نصل لما وصلنا إليه اليوم، أما تطوير الاتصالات فقد مر بمراحل كثيرة وكانت له اهمية كبيرة وخاصة على المستوى الحربي أثناء الحرب العالمية الثانية ومن بعدها الحرب الباردة، وليس من العجيب أن الإنسان بعد أن تمكن من توفير آلية لإتصال الإنسان بأخيه الإنسان، أن يفكر في اتصال الحاسوب بأخيه الحاسوب، وعند هذه النقطة ولدت علم جديد اسمه “شبكات الحاسوب” أو “Computer Networks”

يعتبر “بول باران” أحد الرواد الذين ساهموا في تطوير الشبكات ومن ثم المساهمة مع آخرين في إنشاء أول شبكة حاسوبية تم استخدامها في المجال العسكري والتي كانت تحمل اسم “أربانت” أو “ARBAnet” والتي يمكن اعتبارها أحد الأشكال الأولى لما يعرف اليوم بالإنترنت.

بعد انضمامه لمؤسسة راند البحثية التي كانت تخدم القوات المسلحة الأمريكية، كانت هنالك مشكلة يسعى لحلها، وهي إمكانية نجاة شبكة الاتصالات في حالة وقوع هجوم بالأسلحة النووية، فقد كانت شبكات الاتصالات المستخدمة في تلك الفترة والتي توصل الوحدات العسكرية بعضها ببعض، هي إما شبكات راديو قصيرة الموجة أو شبكة الاتصال الهاتفي السلكي، وهاتين الشبكتين يمكن تعطيلهم ببساطة بسبب القنبلة النووية.

كان الحل المقدم من “بول باران” متمثل في ورقته البحثية “On Distributed Communications” التي نشرها في 1964، والفكرة ببساطة أن لا يتم الاعتماد على الاتصالات المركزية أو شبه المركزية، وإنما يكون هنالك شبكة من الناقلات والاتصالات فيما بينهم، ويتم إرسال المكالمة أو البيانات على شكل حزم قابلة للتوجيه، أو كما شرحها بنفسه في هذا الفيديو.

تلك الفكرة رغم أنها تركز على مجال الاتصالات وتهدف لخدمة المجال العسكري، إلا أنه قد كان لها أثر كبيرة في تطور علم شبكات الحواسيب وكذلك مهدت الطريقة لظهور الشبكة التي يمكن اعتبارها الشكل الأولي للإنترنت، والتي كانت “أربانت” أو “ARPANET” التي أنشأت بهدف ربط الباحثين في عدة مراكز في الولايات المتحدة الأمريكية.

(3)
دونالد ديفيس
(1924 – 2000)

سننتقل من أمريكا إلى بريطانيا، لكنا لن نغادر ذلك العقد من الزمان، فحين كان يحاول “بول باران” إقناع شركات الاتصالات الكبرى بفكرته الثورية تلك، كان هنالك عالم وباحث في بقعة أخرى من العالم يدور في نفس الدائرة، إنه موضوع “تبديل الرزم” في نقل البيانات، أو “Packet switching” الذي طوره “دونالد ديفيس” والذي أصبح مفهوماً أساسياً في عمل الشبكات والإنترنت اليوم.

بدأ حياته العملية عام 1947 حين تم تعيينه في “المعمل الفيزائي القومي” في المملكة المتحدة، وقد عاصر “آلان تورنغ” الذي أسس جهازه العملاق “آلة تورنغ” أثناء الحرب العالمية الثانية، وهي الآلة التي فتحت المجال لعلم خوارزميات الحاسوب. ثم سنحت الفرصة لـ “دونالد” بأن يستفيد من تلك الآلة في أن يذهب بأبعد من ذلك ويفكر في الحواسيب واتصالها مع بعضها البعض.

اشتغل “دونالد” في مشاريع وأماكن متعددة لها علاقة بالحواسيب والحوسبة، لكن الإنجاز المهم الذي قام به والذي أثر بعد ذلك على تطور شبكات الحواسيب ، هو تطويره لفكرة “تبديل الرزم” عام 1965، والتي تم استخدامها بعد ذلك في انشاء أول شبكة حواسيب في العالم “أربانت” وتم تقنينها في بروتوكلات الانترنت والتي لازالت مستخدمة حتى اليوم.

وهكذا نختم هذا التقرير عند هذه النطقة، ونتوقف في تلك الفترة بعد أن أصحبت معالم الطريق واضحة، الطريق الذي يمكن من خلاله ربط أجهزة الحواسيب البعيدة ونقل البيانات فيما بينها، وفي الجزء الثاني من هذه السلسلة إن شاء الله، سنتعرف على شخصيات ساهمت في تحويل تلك الأفكار والأبحاث إلى واقعٍ ملموس، وساهموا في إنشاء أول شبكة حواسيب حقيقية على مستوى العالم.

* مصدر الصورة: Freepik

زر الذهاب إلى الأعلى