مقالات

التقنية، أزمة تعليم وتعلم

e-learning

ما زلت أتذكر استشارة من فتاة مقبلة على تخصص الحاسب وهي تريد ملخصًا عنه لتقرر فيما إن كانت ستدرس الحاسب أم الكيمياء الحيوية. أجبتها بحماسة وجدية بأن الحاسب يتطلب الهدوء والتركيز والتفكير التحليلي، وذكرت لها ارتباطه بالمنطق والفلسفة ونسيت فيما إن كنت حدثتها عن العقلية النقدية أم لا. طبعًا آثرت السلامة واختارت الكيمياء! مر زمن على هذا الموقف وما زلت سعيدة بأني تحدثت لها عن حقيقة التخصص كما أفهمه وأحبه، لا كما يتم تدريسه وتخريج الطلاب منه.

أن تنتمي للحقل التقني يعني ببساطة أن تعايش أغرب النماذج البشرية في مفاهيمها. هذه الغرابة تجرك لفهم أسباب الأخطاء التي تقع وتتكرر في هذا الحقل أو بالأصح في المجال التعليمي منه. فتخصص الحاسب بجميع أقسامه، يساعدك على تجربة عيش مختلفة مع صنفين غريبين: الأول اختار التخصص بدون رغبة حقيقية والآخر اختاره راضيًا، لتجد الصنفين -بعد فترة من الدراسة- يعانيان منها، وسبب هذه المعاناة يرجع لخطأ في مفاهيمهم حول طبيعة العلم ومواده. وإن لم تدرك بعد أن سبب هذا الخطأ يعود للمؤسسة التعليمية، فلا بد أن أشير لوجود صنف ثالث أشد غرابة من سابقيه: عدد هائل من الطلاب المتفوقين دراسيًا، والذين يكرهون التخصص جملةً وتفصيلًا! دراستي للحاسب كانت كفيلة بأن توضح لي مكامن الخلل في العملية التعليمية حينما يتعلق الأمر بالتقنية ومستجداتها. خصوصاً وأن الأخطاء تتكرر من جيلي: الأساتذة الجدد وأساتذتهم. هذا الخلل أدى بدوره لوجود النماذج السابقة بأرقام مفزعة والأسوأ أن التعليم بهذه الطريقة ينجح في حصر مفاهيمهم حول تعلم التقنية.

في بداية حياتي الجامعية تعرضت لصدمة عنيفة عندما أخبرونا أن ما سندرسه في البرمجة لا علاقة له إطلاقًا بالبرامج! عندها فهمت، وفهمت دفعتي بل وكل الطلاب الذين يتلقون التعليم بهذه الطريقة: أن النظام التعليمي يقول لنا بأن الحواسيب والهواتف التي نستعملها، التطبيقات التي تساعدنا على تنظيم حياتنا، التفكير البرمجي الذي يساهم في تحسين مستوى العيش، كل هذا لا علاقة له بالتخصص! بل إن بعض الأساتذة يعلنونها بجرأة: ما تدرسونه هنا لا علاقة له إطلاقًا بالحياة “الوظيفية”. دون أن يتنبهوا لأن الكتب التي يعتمدونها هي الكتب نفسها المعتمدة في الجامعات العالمية والتي تخرج بدورها من يغيرون العالم. وأن المشكلة ليست في هذه الكتب والمعلومات وإنما في الطريقة العقيمة للتعليم. لأجل هذه النقطة صارت التقنية فعلًا جامدًا لا علاقة له بأي شيء خارجي مرتبط بحياتنا. هذا الخلل اتضح لي أنه مرتبط بنقطتين:

  • عدم ربط المعلومات بتاريخها
  • فصلها عن العلوم الأخرى

وحل هذا الخلل ليس مستحيلًا. إلا أنه سيؤدي لنتيجة مذهلة: تعديل مفاهيم الطلاب ومن ثم المجتمع حول التقنية وما يمكن أن تفعله. ولتجاوز هذا الخلل لا بد للطالب أن يفهم كيف وصلت الفكرة إليه ومن ثم كيف تؤثر عليه. وهو ما سأناقشه في النقطتين التالية:

المعلومة وتاريخها

عندما يتقدم الطالب بعرض بحوثه، لا بد له أن يتبع خطًا زمنيًا منطقيًا في طرح الموضوع الذي يتناوله. حيث يبدأ بتاريخ المفهوم وتعريفه ومن ثم يتحدث عن تطبيقاته. ولهذا نتذكر بحوث زملاء الدراسة ونستفيد منها أكثر من تذكرنا للدروس والمحاضرات.

أولى المشاكل التي تتعرض لها المعلومات عند التدريس يعود بالدرجة الأولى لعدم ربطها بتاريخها. مما يجعل مفهومها ضبابيًا لحدٍ كبير وبالتالي يصعب التعامل معها. فمعرفة السياق التاريخي للفكرة ومتابعة تطورها، يعطيان منهجية ممتازة لفهمها وتفعيلها. بعد هذا تبرز أهمية وضع تعريف دقيق لها قبل التطرق لتطبيقاتها. إلا أن تعليمنا يقفز فجأة ليشرح لنا كيف نرسم دائرة كهربائية دون أن يخبرنا ما هي هذه الدائرة وإلى أي نوع تنتمي، فضلًا عن أن يخبرنا كيف تتمايز هذه الأنواع. هذه الآلية في التدريس تلغي التفكير في جدوى الدائرة لتجعله منصبًا فقط على رفع كفاءتها. باختصار، تجاهل تاريخ الموضوع وعدم إيجاد تعريف دقيق له يعني أن تقوم ببرمجة كائن معقد دون أن تنشئ  صفاته الخاصة، فمهما بلغت دواله من الذكاء، سيظل كائنًا عاجزًا عن العمل!

الاتصال بالعلوم والحياة

بسبب طبيعة العلم التراكمية، لا أبالغ لو قلت بأن كتابتي لهذا الموضوع على جهازي اللوحي كانت نتيجة تسلسلية لإحدى محاورات أفلاطون. ولأوضح أكثر فإن الناقد والفيلسوف الإيطالي أومبرتو إيكو ذكر في كتابه “حكايات عن إساءة الفهم” -وهو كتاب يتحدث عن إشكالات لغوية وربما فكرية – قصة ابتكار النظام الثنائي وهي قصة أغرب من ارتباط أفلاطون بالآي باد.

من خلال قراءاتي البسيطة في المنطق والفلسفة والنقد، وصلت لتوافق كبير بين تخصصي الغارق في علميته وبين ما أحب أن أقرأ حوله وأعيش في ظله. هذا الانسجام زاد من تعميق فهمي لتخصصي التقني. حتى أصبح تعديل الكود يشبه في كثير من حيثياته نقد النص الأدبي، وهكذا تتشابه كتابة الكود مع كتابة هذا النص! أنا لا أبالغ فيما أقول ولا أحاول تقريب المستحيلات. هذه قناعة خاصة حسنت علاقتي مع اهتماماتي ولن أستطرد فيها كثيرًا، غير أني أردتها مدخلًا لشرح هذه النقطة: حتى تحب التخصص وتفهم جدواه، لا بد أن تربطه بكيانك الداخلي ويصبح جزءًا لا يتجزأ من تعاملاتك مع الحياة. لنعد للتعليم، هل يتم هذا من قبل الأساتذة؟  ليس مستحيلًا أيضًا أن يتم عقد صلح ما بين التقنية كمفاهيم وتطبيقات وبين بقية العلوم والحياة المعاشة. كل ما نحتاجه هو تغيير النظرة للتخصص وإدراك قدره الحقيقي ومعاملته على هذا الأساس.

أخيرًا نحن نعلم أن النظام التعليمي يعاني خللًا هائلًا في التعامل مع التخصص وأن المجتمع ككل يعاني من قصر نظر تجاهه. لكن يبقى دور الطالب والأستاذ لتعديل هذا الخلل وتحسين هذه النظرة. ما أريد إيصاله من خلال التدوينة أن على الأستاذ إعادة النظر في مفهومه حول تدريس الحاسب بجميع فروعه ومواده، وعلى الطالب أن يتوقف عن التذمر والحفظ الأجوف. بالنهاية نجد أن كليهما يتحمل مسؤولية التغيير. الإنترنت مجال رحب لتعديل هذه  الأخطاء: التدوين، الويكيبيديا، أنظمة إدارة المحتوى (كموقع  Bloomfire وتطبيقه على آي فون) كل هذا وغيره يتطلب منا التفاتة جادة لتصحيح مسار العملية التعليمية فيما يخص الحاسب خصوصًا بتعزيز مفهوم التعلم الذاتي.

مصدر الصورة

الوسوم