مقالات

الثورة الصناعية الثالثة – عن الإيكونمست

نُشرت النسخة الإنجليزية من هذا المقال في عدد21-27 أبريل 2012 في مجلة الإكونمست البريطانية، وهي المقالة الافتتاحية لتقرير خاص عن الثورة الصناعية الثالثة.

الثورة الصناعية الثالثة

بدأت الثورة الصناعية الأولى في بريطانيا في أواخر القرن الثامن العشر مع دخول المكننة في صناعة النسيج، والتي ولد نتيجتها المصنع الأول في مغزلٍ للقطن، ليكون مكاناً يتجمّع فيه مئات عاملي الحياكة لينفذوا أعمالاً يدوية شاقة كانت في السابق توزع عليهم ليقوموا بها كل في كوخه. أما الثورة الصناعية الثانية فبدأت في أوائل القرن العشرين مع إبداعات هنري فورد في خط الإنتاج المتحرك والذي بشّر وقتها ببداية عصر الإنتاج الشامل ذي الكميات الضخمة (Mass Production). زادت هاتان الثورتان من غنى الناس ومن مدنيتهم. والآن هناك ثورة صناعية ثالثة على الطريق، يتجه فيها التصنيع ليصبح رقمياً، وستؤدي إلى تغييرات كبرى، لن تكون التجارة إلا جانباً من جوانب عديدة أخرى ستتأثر بها، كما يناقش هذا التقرير الخاص.

قامت المصانع في الماضي على أساس ضخ كميات ضخمة من المنتجات المتماثلة تماماً في السوق، حتى أنّ هنري فورد كان يردّد أن من يرغب بالحصول على سيارة بلونه المفضل سيحصل عليها طالما أنه يفضل اللون الأسود. لكنّ تكلفة إنتاج كميات قليلة من منتجات متنوعة توافق التفضيلات المختلفة لأذواق المستهلكين آخذة الآن بالانخفاض بفضل تقنياتٍ مذهلةٍ تجتمع سوية: برمجياتٌ ذكية، ومواد لم نعرفها في السابق، وروبوتات بارعة، وأساليب تصنيع جديدة (الطباعة الثلاثية الأبعاد على وجه الخصوص)، تدعمها مجموعة متكاملة من خدمات الإنترنت. أي أن المصنع في المستقبل سيركز على التنويع الشامل (Mass Customisation) في المنتجات بدل الإنتاج الشامل (Mass Production)، لا بل إنه سيكون أقرب إلى أكواخ عاملي الحياكة منه إلى خط إنتاج فورد.

نحو بعد ثالث

بالتلحيم أو بالبراغي، كانت عمليات التصنيع تُجمِّع الأجزاء المكونة للمنتج مع بعضها البعض، أما الآن مع وصول الثورة الجديدة فالأمر مختلف. سيُصَمّمُ المنتج باستخدام الكمبيوتر ثم “يُطبَع” بعد ذلك بطابعةٍ تستخدم تقنية الطباعة الثلاثية الأبعاد. ستمنح هذه الطابعة المنتج بنيته الصلبة من خلال بنائه من طبقات متراصة من المادة المكونة له. بإمكان الطابعة العمل دون إشراف عليها، وإذا احتجنا لإدخال تعديلات في التصميم يمكننا ذلك ببضع نقرات من فأرة الكمبيوتر. بهذا تستطيع الطابعة ثلاثية الأبعاد صنع أشياء معقدة جداً ليس بوسع المصانع التقليدية صنعها. ليست هذه إلّا البداية فقط، فمع مرور الوقت سيكون بمقدور هذه الآلة الرائعة صنع أي شيء تقريباً ومن أي مكان في العالم، سواء كنت تعمل من كراج بيتك أو من قرية في وسط أفريقيا.

لاشك أن الطباعة الثلاثية الأبعاد هي الأكثر إدهاشاً من بين كل التقنيات الجديدة. وقد بدأ بالفعل استخدامها في صنع عدة منتجات كمعينات السمع وقطع الطائرات التي تتضمن تقنية عالية والتي تحتاج لأن تفصّل بأشكال شديدة التخصيص. ستغيّر هذه التقنية جغرافيا عمليات التوريد، فبفضلها لن يضطر بعد الآن مهندسٌ يعمل في وسط الصحراء إلى انتظار توريد إحدى المعدات إليه من قرية قريبة، كل ما عليه عمله هو تحميل تصميم القطعة من الإنترنت ثم طباعته. لقد اقترب اليوم الذي سنضحك فيه بشدة عندما نتذكر كيف أن المصانع كانت تتوقف عن العمل بانتظار توريد قطعة من المعدّات، أو كيف كان الزبائن يشتكون من أنهم لا يستطيعون إيجاد قطع غيار لأشياء اشتروها.

ثورة شاملة

لكن هذا لا يعني أن التقنيات الأخرى التي ستغير الصناعة أقل أهمية من الطباعة الثلاثية الأبعاد. فمواد التصنيع الجديدة ستكون أخف وأقوى وأطول عمراً من المواد القديمة، وقد بدأت هذه المواد تأخذ موقعها في الصناعة، فألياف الكربون بدأت تحلّ مكان الحديد والألمنيوم في تصنيع منتجات عدة، بدءاً بالطائرات وليس انتهاءً بالدراجات الهوائية الجبلية. كما ستُمكّن التقنيات الجديدة المهندسين من تعديل أدق التفاصيل في أشكال الأشياء. وبفضل التطور في تقنيات الصغائر (النانو تكنولوجي) ستكتسب المنتجات خصائص جديدة، فمثلاً ستُزوّد ضمادات الجروح بخاصيةٍ علاجية، وستعمل المحركات بفاعلية أكثر، وسيصبح تنظيف الأواني المنزلية أسهل.

ستمتد الثورة أيضاً إلى المجال الوراثي، حيث يُطوّر المهندسون الآن فيروسات ستستخدم لتصنيع منتجاتٍ كالبطاريات. أما الإنترنت فسيشعل المنافسة، بفضله ستتعزز قدرة المصممين على التعاون مع بعضهم في تصميم منتجات جديدة، مما سيبقي السوق مفتوحة للمنافسة وبأقل التكاليف. أي أنه في حين احتاج فورد إلى رأس مال ضخم لبناء مصنعه في روج ريفر، سيستطيع المستثمر أن يبدأ مشروعه إذا تدبر بعض الاحتياجات القليلة إلى جانب حاسوبه المحمول وشهيته للاختراع.

طبيعة الثورات

كأي ثورة، قد يتضرر البعض من هذه الثورة أيضاً، تماماً كما تفعل الآن التكنولوجيا الرقمية من زعزعة وسائل الإعلام، وكما فعلت في الماضي معامل غزل القطن من إنهاء استخدام الأنوال اليدوية، وأيضاً كما جعل الطراز T من سيارات فورد حذّائي الخيول بدون عمل.

ستتملك الكثير من الناس قشعريرة عند رؤية أحد معامل المستقبل، خاصة من يتوقعون رؤية آلات وسخة يشرف عليها عمّال قد لطخ الشحم ثيابهم. فالمصانع الجديدة ستكون نظيفة بشكل باهر وقد تبدو للبعض أماكن مهجورة أيضاً، لأن المصانع اليوم لا تحتاج إلى عدد كبير من العمال كما كان الحال في الماضي، فالعامل الواحد يسهم في إنتاج ضعف عدد السيارات التي كان يساهم فيها العامل قبل نحو عقد من الزمن، لذلك لن يتركز العدد الأكبر من الموظفين في المصنع، بل في المكاتب التابعة له، حيث سيتواجد المصممون والمهندسون وأخصائيو تقنية المعلومات، والخبراء اللوجستيون، وموظفو التسويق ومختصون آخرون.

هذا يعني أن مهن المستقبل في مجال الصناعة ستحتاج إلى قدر كبير من المهارة، وسيتم الاستغناء عن الكثير من المهام المضجرة التي تعتمد على التكرار، فأنت لن تحتاج إلى عمالٍ لتثبيت البراغي في مصنع يُصنّع منتجات لا توجد فيها براغي أصلاً.

ولن يقتصر تأثير الثورة على كيفية التصنيع، بل سيتجاوزها إلى مكانه. اعتدنا مؤخراً على رؤية المصانع تنتقل إلى دول توفر يداً عاملةً بأجور رخيصة، بهدف كبح جماح التكاليف إلى أقل ما يمكن. لكن هذه التكلفة تصبح أقل أهمية الآن. لنأخذ الآيباد كمثال، كان سعر الآيباد الأول 499$، منها 33$ فقط تكلفة تصنيع، يذهب منها 8$ فقط إلى مصنع تجميع الجهاز في الصين. لهذا السبب نرى الكثير من عمليات التصنيع تعود من وراء البحار إلى البلدان الغنية، ليس بسبب ارتفاع أجور العاملين في الصين، لكن لأن الشركات الآن تريد البقاء قريبة من زبائنها بحيث تستجيب بسرعة أكبر إلى التغييرات في الطلب. أضف إلى ذلك أن هناك منتجات شديدة التطور يستلزم تصنيعها وجود الأشخاص الذين يصممونها والأشخاص الذين ينتجونها جنباً إلى جنب في مكان واحد. بناءً على هذا، تتوقع مجموعة بوسطن الاستشارية (Boston Consulting Group) أنه مع حلول عام 2020، ستستطيع أمريكا صناعة 10-30% من المنتجات التي تستوردها الآن من الصين اللازمة لقطاعات النقل، والحواسيب، والمعادن المصنّعة، والمكنات، مما سيرفع الناتج الاقتصادي الأمريكي بحوالي 20-55 مليار في السنة.

الصدمة من الجديد

أما المستهلكون، فلن يجدوا صعوبة في التأقلم مع عصرٍ جديدٍ يقدّم لهم منتجات أفضل، تصل إلى الأسواق بسرعة أكبر. لكن المشكلة قد تكون في الحكومات التي تدفعها غريزتها عادةً إلى حماية الصناعات والشركات الموجودة على الأرض، وليس الشركات الناشئة التي قد تهدد وجودها. لهذا تراها تغرق المصانع بالدعم المادي الحكومي وبمدراء متغطرسين كل همّهم نقل عمليات الإنتاج إلى الخارج، يصرفون لهذا الغرض مليارات من الأموال ليدعموا بها تقنيات جديدة يعتقدون، بحكمتهم، أنها ستلقى رواجاً. كما يتشبثون باعتقادهم الرومانسي بأن التصنيع هو الأهم ولا مجال لمقارنته بقطاعات الخدمات أو التمويل.

لا معنى لكل هذا. الخطوط الفاصلة بين التصنيع والخدمات آخذة بالتلاشي. فرولز رويس لا تبيع محركات للطائرات، بل تبيع عدد الساعات التي يستطيع المحرك خلالها أن يبقي الطائرة محلقةً في السماء. على أية حال، لطالما كانت الحكومات دنيئة في أساليب اختيارها للفائز بدعمها، ويُتوقع أن تصبح أكثر دناءة في الأيام القادمة، خاصة مع جحافل قادمة من المستثمرين والهواة يتبادلون التصاميم على الإنترنت، ثم ينتجونها من منازلهم، ويسوقونها إلى العالم من كراج المنزل.

بينما تستعر الثورة، الأجدى بالحكومات التشبث بالأساس: مدارس أفضل تُخرّج قوةً عاملةً ماهرة، وقوانين واضحة، مع فسحة كافية تسمح للمستثمرين بالإبداع في أي مشروع. أما الباقي فسيتكفل به الثوار.

المصدر: مشابك

المقال باللغة الإنكليزية

‫10 تعليقات

  1. اولا اشكرك على هذا المقال الرائع ,, ثانيا ذكرني هذا المقال بكتاب blue ocean strategy
    ……. دائما ما يبحث الناس عن تغيير بعمل ثورة صناعية او ثقافية .. فما اجمل ان يصنع الشخص ما يريد ومتى ما يريد ,, سوف نصل الى ثورة ال customization
    ,,,

  2. واااااو… افحمتني يا رجل بهذا المقال الرهيب!!! صراحة وانا اقراء المقال اعود الى الماضي بسرعة الصوت واقفز الى المستقبل بسرعة الضوء لا ادري اين انا الان بعدما قراءت هذا المقال، وان بقيت ضائع ارجوا ان تقوموا بأعادة طباعتي بأي طابعة رباعية الابعاد لديكم.

  3. اتمنى ان ياتي اليوم الذي يستطيع العرب فيه ان يكونوا محيطهم الازرق وينتهوا من المحيط الاحمر الذى اكل الاخضر واليابس’’ اشكرك على الرد

  4. مع أنه جميل و فيه العديد من الأفكار إلا أنه أود العديد من المغالطات و إن كان مصدر المقال مثل الإكونمست … و أكبر قدر عندما قال مثلاً :

    لن يضطر بعد الآن مهندسٌ يعمل في وسط الصحراء إلى انتظار توريد إحدى المعدات إليه من قرية قريبة، كل ما عليه عمله هو تحميل تصميم القطعة من الإنترنت ثم طباعته.

    فهذه الثورة التي أفضل أن تسمى ثورة “التصنيع الرقمي” حلاوتها أنها فتحت باب الإنتاج و الإبداع للجميع و ليس للمهندسين فقط .
    و المغالطة الأخرى و الأكبر أنها قال :

    لن يتركز العدد الأكبر من الموظفين في المصنع، بل في المكاتب التابعة له، حيث سيتواجد المصممون والمهندسون وأخصائيو تقنية المعلومات، والخبراء اللوجستيون، وموظفو التسويق ومختصون آخرون.

    حيث قال أنه سيؤثر سلباً على العمال و لكن أظن بالعكس هو أعاد ريادة الإنتاج للأفراد و ليس بالضرورة أن يكونوا مختصين .

  5. شكراً على تعليقك أخ يحيى،
    أولاً أريد أن أوضح أن نقلي لهذه المقالات إلى اللغة العربية هدفه أن نتناقش حولها ونتبادل الأفكار والأراء بشكل ناقد وبنّاء كقرّاء عرب مهتمين بهذا النوع من المقالات التقنية، ومهما كان مصدر المقال فهو خاضع للنقد وهذا أساس علمي لا يمكن التطور دونه. في موقع الإكونمست علّق عدد كبير جداً من القراء على هذا المقال وأعطووا آراءهم، بعضهم أعجبهم وبعضهم لم يعجبه. لذا يسعدني نقدك وإبداء رأيك.

    الآن، بالنسبة للنقطة الأولى التي ذكرتها عن أن الثورة ليست محصورة بالمهنسين، فهذا صحيح، وهذا ليس إلا مثال عن أشخاص ستغير الثورة عملهم. ولهذا في نهاية المقال، يذكر أن “جحافل قادمة من المستثمرين والهواة يتبادلون التصاميم على الإنترنت” سيكونون فاعلين في هذه الثورة وأنه “سيستطيع المستثمر أن يبدأ مشروعه إذا تدبر بعض الاحتياجات القليلة إلى جانب حاسوبه المحمول وشهيته للاختراع”. أي أن المجال مفتوح للجميع.

    بالنسبة للنقطة الثانية، الحاجة لعدد قليل من العمال، هذا لأن العاملين الغير مهرة أو ذوي مهارات متوسطة قد يفقدون أعمالهم في الثورة الجديدة وهم نسبة كبيرة حالياً، ولهذا سيبدو المعمل خالياً. ولهذا السبب يشدد المقال في النهاية أيضاً على الحاجة ل “مدارس أفضل تُخرّج قوةً عاملةً ماهرة”، وهذا لا يتعارض ما قلته من إعادة ريادة الانتاج للأفراد غير المختصين بالضرورة كما ذكرت في تعليقك.

    تحياتي
    عمر عمران

  6. شيء مؤكد أخي عمر و أنا لست أنتقد على نقلك المشكور لها و ترجمتها على العكس أنا مسرور جداً أنه ندر أهمية الموضوع و ضرورة نقله لبلادنا و لكن أحببت أن أنقل رأي كي لا نفهم الموضوع من زاوية ضيقة فقط و شكراً على ردك المسهب .

  7. مقال ممتع جداً، أرجوك لا تُوقف مثل هذه المقالات الفاتحة لشهية القراءة :)

  8. ان كانت هذه التقنيه يستطيع ان يمتلكها الفرد. فهذه ستكون نقله نوعيه في عالم الصناعه. لانها ستخفض تكاليف الصناعه للشباب المبتكر.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى